في عام 1937 نشرت صحيفة محلية في سوريا كلمات تتحدث عن الحرية وتهاجم فرنسا. أغضبت الكلمات المندوب الفرنسي في المنطقة وأمر بإحضار كاتبها. جيء للمندوب بكاتب الكلمات، فانتابته الدهشة عندما وجده طفلاً في الصف الخامس … انحنى المندوب الفرنسي وسأل الطفل لماذا هاجمت فرنسا؟ أجاب الطفل لأن فرنسا تحتل وطني وأنا أحب وطني، ألا تحب وطنك فرنسا أنت؟! ابتسم المندوب الفرنسي وكان مثقفاً، ثم شد الطفل من أذنه وقال له : “لا تكتب مرة أخرى عن فرنسا ففرنسا أم الحريات”.
كان ذلك الطفل هو جدي …
وجدي الذي خرج يومها من مقر المندوب الفرنسي غير مصدقٍ أن فرنسا أم الحريات، كان قد ابتدأ للتو نضاله ضدها. كتب عن سوريا والحرية، وهتف في المظاهرات التي خرجت من مدرسته التجهيز الأولى – جودت الهاشمي حالياً – تندد بالاحتلال وتنشد الحرية. قُمع ولُوحق ودخل المعتقلات، واعتصم مع زملائه للدفاع عن مدرستهم التي حاصرها وقصفها الفرنسيون، والتي آمن جدي وزملاؤه بأنها ” قطعة حرة من أرض سورية لا يجب أن يدنسها المحتل مهما كان الثمن “، فاقتلعوا حجارة أسطح المدرسة ورموا بها الجنود الفرنسيين الذين ردوا بالرصاص … وسقط بجانب جدي أصدقاء له أحبهم، بكاهم وحمل صور وجوههم في قلبه حتى آخر المشوار.
بعد عشر سنوات على مغادرة جدي لمكتب المندوب الفرنسي، أُعلن أن آخر من قتلوا أصدقاء جدي قد رحل نهائياً عن تراب سوريا. قد لا أعرف أبدا ماالذي شعر به جدي في تلك اللحظة، ولكني أعرف أنه في صباح يوم ربيعي من كل عام كان ينصت بكل جوارحه لأغنية تقول :
كم لنا من ميسلون نفضت عن جناحيها غبار التعب …
ويذرف دمعة … دمعة بحجم وطن.
اليوم، ولأول مرة منذ ذلك اليوم لم يكن جدي هنا ليسمع الأغنية ويذرف الدمعة، ولكني رأيت الدمعة نفسها .. كانت هذه المرة في عين أمي .
في سوريا اليوم أمهات كثر كأمي، لا تزال كل منهن تذرف دمعة تحكي حكاية …
وفي سوريا اليوم أبناء كثر مثلي، ورثوا الدمعة وأقسموا على استكمال الحكاية …
حكاية شعب بنى وطناً … وسيّجه بالحرية.
خالد المشرقي
17-04-2011