طوال ثمانية وعشرين عاماً من عمري لم أنطلق يوماً في تعريفي لسوريتي ولمواطنتي (كما أراها أنا على الأقل) من أني أنحدر من أقلية مذهبية في سورية، ولم أشعر لمرة واحدة أن كوني ابن سلمية يفرض علي منطقاً ورؤية مختلفة لما يجب أن يكون عليه وطني بما يحافظ على كياني ويضمن بقائي ومستقبلي. فمن أين طرأت فجأة مع أول صوت مطالب بالحرية، أيا كانت تلك الحرية في بلد يقوده حزب يرفع الحرية شعاراً له، كل تلك الأسئلة التي بات يمطرني بها البعض ضمنا وصراحة، سرا وعلانية، عن حقيقة موقفي من حراك أبناء أحياء وقرى ومدن سورية تبعاً لطائفة أبنائها أو انتمائهم المذهبي، وعن مدى شعوري بالخطر الذي يتهددني كمنحدر من أقلية أولا وكعلماني ثانياً من أفراد ومجموعات أفترض أنني أتشارك معهم على الأرض السورية ماهو أكبر من انتمائهم المذهبي والطائفي.
لا أملك في الإجابة على هذه الأسئلة ومثيلاتها سوى أن أستحضر موقف رجل سوري سطر تاريخاً مشرفاً لسورية ولأبنائها، ونال في الذاكرة الوطنية السورية من التقدير مالم ينله سوى قلائل، وهو فارس الخوري، يوم أبلغه الجنرال غورو أن فرنسا جاءت إلى سوريا لحماية مسيحيي الشرق، فما كان من فارس الخوري إلا أن قصد الجامع الأموي في يوم جمعة وصعد إلى منبره وقال: إذا كانت فرنسا تدعي أنها احتلت سوريا لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله …
فأقبل عليه مصلو الجامع الأموي وحملوه على الأكتاف وخرجوا به إلى أحياء دمشق القديمة في مشهد وطني تذكرته دمشق طويلا.
إذا كان فارس الخوري المسيحي البروتستانتي قد آمن منذ بدايات القرن الماضي أن انتماءه لأبناء وطنه من المسلمين هو الضامن الوحيد لوجوده وبقائه ومستقبله كابن أقلية في سورية، فماالذي سيجعلني انا اليوم بعد مايقرب المئة عام أخرج عن هذا النهج الوطني الذي تكرس في التاريخ والوجدان السوري؟! أية معطيات وحقائق مختلفة تلك التي استند إليها الخوري ليمنح ثقته المطلقة لرواد الجامع الأموي في بلد كان قد نفض للتو عبء اربعة قرون من استبداد حكم عثماني باسم الإسلام ونصب عليه ملكا من سلالة أشراف مكة ثم أتاه الفرنسيون مبشرين بحماية مسيحييه ؟! وهل يعقل أن الخوري امتلك من الضمانات وقتها ما لا أملكه أنا اليوم في سورية في القرن الحادي والعشرين ؟!
لا أريد هنا أن أقلل من خطر الاقتتال المحدق بسوريا، فقد كنت مقتنعاً منذ بداية الأحداث ولازلت أن الاختلاف السياسي الحاد الناتج عن الاستبداد ضمن التركيبة السورية ذات الخصوصية، اذا لم يعالج، فسوف يضغط على صيغة العيش المشترك السورية الموروثة منذ مئات السنين ويورث انفجارا طائفيا خطيراً، متغذياً بكل ما يضخه المحيط الإقليمي من احتقان ومدعوماً من قوى لن تعدم الوسائل القذرة لتوظفه ضمن رؤيتها ومصالحها في المنطقة. ولكني لازلت وسأبقى مقتنعاً أيضاً أن تحصين السوريين ضد هذا الخطر لايكون بسياسة التخويف والترهيب الغبية والخطيرة في آن والتي يسوق لها حالياً، بل بتعزيز ثقة المواطنة بين أطياف الشعب السوري المتعددة، الثقة نفسها التي راهن عليها فارس الخوري في شعبه الذي شرذمه الفرنسي في دويلات طائفية، ولم يخذله شعبه.
كيف لي أن أقتنع بغير ذلك وأنا من نشأ في بيت سوري لم يعلمني أن أصدق أن أمهات سوريات في حماه أو ادلب أو دير الزور قد أرضعن أولادهن كرهي وكره المسيحي، أو أن آباءاً سوريين في جبال الساحل أو جبل العرب قد ربوا أطفالهم على الضغينة لأبناء حماه ودمشق وحلب والجزيرة!!
كيف لي أن أفكر بغير ذلك وجدي الذي نظَّم وقاد مع زملائه مظاهرات ضد المحتل الفرنسي لم يقل لي أنه توحد يومها مع ابن الساحل السوري أكثر مما فعل مع ابن حماه أو حلب !! ولم يرو لي يوم خسر رفاقاً له عندما قصف الفرنسيون مدرسته الثانوية في دمشق أنه بكى الماركسي والقومي أكثر مما بكى الإسلامي والكردي!!
لم يذكر لي جدي أبداً أن أستاذه ميشيل عفلق كان قد همس له يوماً أن حركة الإحياء العربي، التي كان جدي من روادها العشرين الأوائل (وتحولت فيما بعد إلى البعث)، قد تشكلت لحمايته وحماية جدي من أبناء طائفة زميل عفلق الدمشقي الميداني صلاح الدين البيطار أو الحموي أكرم الحوراني !!
لماذا يجب علي الآن أن أقتنع أن أحفاد العظمة والخوري والأطرش والعلي وهنانو قد تربوا على الطائفية في سورية وأنهم ينتهزون الفرصة ليشحذوا كرههم لبعض وليعلنوها حربا على كل ما بناه أجدادهم من قيم؟!
نعم … أنا السوري اليوم أجدني أنزف دماً غالياً من كل جرح سوري، فالرصاصة التي قتلت محمود الجوابرة أصابت صدري، والسكين الذي ذبح نضال جنود حز عنقي، ويمزقني أن جرح السوري بيد السوري ينكأ، فأصرخ بكل ما أوتيت من سوريتي .. كفى!! لكن نزيف الدم السوري لايزيدني سوى تمسكاً بكل قطرة دم سورية تسفح على تراب وطني من أقصاه إلى أقصاه، والجرح السوري لايزيدني سوى انتماءاً لكل عائلة سورية من درعا إلى جسر الشغور والقامشلي ومن اللاذقية وطرطوس إلى دير الزور، وإن كان من أمن وسلام لي في هذا الوطن فهو في انتمائي لأبنائه ووحدتي معهم وليس بكم الأفواه وكسر الأقلام والقمع واالاعتقال وقتل اخوة لي، فذلك هو الانتحار بعينه، انتحار لوطن بالكامل وإن كان مؤجلاً، ولست أنا من ينام قرير العين فيما تسهر وتدمع أعين أمهات سوريات لمجرد أن أبناءاً لهن ارتكبوا جرم الكلمة، في بلد أريد للكلمة فيه أن تخنق وتذبل بدلاً من أن تزهر.
نعم … قد يقتلني غداً متطرف حاقد وجد في اختصام الأخوة مرتعاً له، ولكن، هل جعل مقتل غاندي على يد متطرف منه مخطئاً؟ وهل غير ذلك حقيقة أنه من أعظم دعاة السلام والحريات والمدنية في العالم؟!
قد فات الأوان كثيراً على أن يزعزع الخوف إيماني بأبناء وطني، فأنا من جبل على الانتماء ورضع الانتماء وتنفس الانتماء ومارس الانتماء لكل ما يمت لسورية بصلة، فكيف إذا بأغلى ما تملكه سورية … إنسانها.
عندما صنع محاضر (مهاتير) محمد معجزة ماليزيا خلال عشرين عاماً فقط كان أول ما آمن به واستند إليه هو شعبه، هو الإنسان الماليزي، ولم يكن محمد حالماً أو رومنسياً عندما شخص مشكلة شعبه في كتابه “معضلة الملايو” وآمن بقدرته على تجاوز مشاكله وهو من قال “لايوجد مالايستطيع الملايو فعله”. فإن كان محمد قد آمن بشعب الملايو “المسلم” في بلد قائم على تصدير المطاط كماليزيا، فهل يعقل أن أفقد أنا إيماني بشعبي الذي تضرب جذور حضارته ومدنيته في أعماق التاريخ البشري؟!
سأظل مؤمناً بالإنسان السوري الذي أتشارك معه أغلى ما أملك، وسأنطلق منه دائماً في مقاربة أي حل لكل ماينغص سوريا كبر أو صغر. سيبقى إنسان سوريا هو منطلق الوطن ومنتهاه، الوطن ذاته الذي حمله جدي في قلبه يوم واجه الفرنسيين وأورثني إياه عبر دمه، والوطن نفسه الذي ارتسم في عيني فارس الخوري يوم انتزع استقلاله من فرنسا في قاعة الأمم المتحدة.
في دمشق …
نمشي إلى غدنا واثقين من الشمس في أمسنا
نحن والأبدية … سكان هذا البلد.
محمود درويش